أخبار دولية وإقليمية

عائلات فلسطينية تبحث بين الأكياس البيضاء في غزة عن ذويها وسط مشاهد مؤلمة

في مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، لا تكاد رائحة الموت تغيب عن المكان منذ أسابيع.

عند بوابة المستشفى، تصطف عائلات فلسطينية تحمل صور أبنائها المفقودين، تنتظر لحظة قد تكون فاصلة بين الأمل واليأس.

فاليوم، سلمت إسرائيل عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر 15 جثمانا لفلسطينيين قضوا خلال الحرب الأخيرة، كدفعة جديدة ضمن اتفاق تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ أوائل أكتوبر الجاري.

داخل الساحة الواسعة للمجمع، تمتزج مشاعر الترقب بالحزن، فيما تتهيأ الطواقم الطبية لاستقبال الشاحنات المبردة التي تنقل الجثامين، وبينما تتصاعد الأدخنة من مولد كهربائي قريب، تسود حالة من الصمت والرهبة، وكأن الهواء نفسه يحمل ثقل الفقدان الذي يعيشه الجميع.

في هذا المشهد المثقل بالمأساة، تتوسط أم محمد الحداد، وهي سيدة خمسينية من سكان خان يونس، صفوف المنتظرين، وقد أتت منذ الفجر بحثا عن ابنها محمد، الذي فقد منذ أكتوبر 2023 مع اندلاع الحرب بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإسرائيل.

وتقول الأم المكلومة لوكالة أنباء ((شينخوا)) “كل يوم يمر دون أن أعرف مصيره يقتلني أكثر، اليوم ربما أراه، حتى لو كان ميتا”.

وبعد قليل، توقفت شاحنات التبريد أمام قسم الطب الشرعي، حاملة عشرات الجثامين التي سلمتها إسرائيل، ليبدأ معها فصل جديد من الحزن الجماعي في غزة.

حسب شهود عيان، تصل الجثث في أكفان بلاستيكية، بعضها متجمد والبعض الآخر متحلل جزئيا، آثار الدماء ما زالت على الملابس، بينما يكسو الرمل وجوه بعض القتلى الذين ظلوا لأشهر في العراء قبل نقلهم.

في محاولة للتعرف على بعض الجثث، عمدت وزارة الصحة على نصب شاشة كبيرة في فناء المستشفى، كي تعرض عليها صور الجثث المرقمة، في محاولة لمساعدة الأهالي على التعرف إلى ذويهم.

جلست سمية الصالحي، كغيرها من عشرات العائلات، تراقب الصور بعينين غارقتين في القلق، وعندما بدأ موظف من وزارة الصحة بعرض صور الجثث، ساد صمت ثقيل المكان.

تقول الأم بصوت متهدج لوكالة أنباء ((شينخوا)) “ما شاهدناه يفوق الخيال، لا أحد يتمنى أن يرى ابنه بين هذه الوجوه”.

تتابع سمية حديثها وهي تمسح دموعها “الكثير من الجثث تعرضت للتعذيب أو الحرق، لا نعرف كيف يمكن لإنسان أن يفعل ذلك بآخر، كأننا نعيش في مشهد من فيلم رعب”.

رغم أنها لم تتمكن من التعرف على ابنها، إلا أنها تمسكت بخيط الأمل، كما فعل كثير من العائلات التي تراقب صورا مشوشة لجثامين متفحمة أو مغطاة بالتراب.

قرب مكان عرض الصور، وضعت 15 جثة على الأرض، أيديهم مكبلة وأعينهم معصوبة، على جبين أحدهم ظهرت فتحة تشي برصاصة حديثة، بينما بدت جماجم آخرين متهشمة وأسنانهم مكسرة.

جميعهم يحملون أرقاما بدل الأسماء، وصورا جزئية لملامحهم أو ثيابهم أو أصابعهم، علّها تساعد ذويهم على التعرف عليهم.

وسط هذا المشهد، ارتفع صوت رجل خمسيني يصرخ “هذا ابني، هذا حذاؤه، أنا من علمته أن يربطه هكذا!” كان إبراهيم النعسان، الذي فقد ابنه أحمد قبل عشرة أشهر.

انهار الرجل على الأرض باكيا قبل أن يغيب عن الوعي، ليتدخل الطاقم الطبي لإسعافه، ويقول النعسان لـ((شينخوا)) بعد أن استعاد وعيه “حتى بعد موت أبنائنا، لا يسمحون لنا بتوديعهم بكرامة، يعذبوننا ونحن أحياء ويعذبونهم وهم أموات”.

ويضيف بصوت متهدج “أحمد كان في السابعة عشرة من عمره، لم يحمل سلاحا يوما، كان مجرد فتى يحلم بالحياة، والآن أتعرف عليه من ربطة حذائه بعدما احترق وجهه بالكامل، لا يمكن تخيل هذا الألم”.

منذ دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 10 أكتوبر الجاري، أعادت إسرائيل 165 جثة إلى قطاع غزة، وفقا لما ذكره المكتب الإعلامي الحكومي في غزة.

وقال أحمد ضهير، مدير قسم الطب الشرعي في وزارة الصحة، لوكالة أنباء ((شينخوا)) إن “الجثث تصل عبر الصليب الأحمر وهي مكبلة ومعصوبة العينين، ودون أي بيانات تعريفية”.

وأضاف أن “الوزارة لا تمتلك الإمكانيات اللازمة لإجراء الفحوصات المخبرية الدقيقة بسبب نقص المعدات، ومنع إسرائيل إدخال أدوات فحص الحمض النووي (DNA) .

وأوضح ضهير أن التعرف على الضحايا يتم غالبا من خلال الملابس أو العلامات الخارجية، مشيراً إلى أن “الطاقم الطبي، المكون من 16 شخصا، يعتمد فقط على الفحص الظاهري والتوثيق الفوتوغرافي بسبب تجمد الجثث ونقص ثلاجات الحفظ”.

في زاوية أخرى من الساحة، تتنقل امرأة ترتدي ثوبا أسود طغى عليه الغبار بين الجثث المغطاة بالأكياس البيضاء، تفتح بعضها بحذر ثم تغلقها بعينين تائهتين.

تقول المرأة، التي عرفت نفسها بأنها “أم إسماعيل”، لـ ((شينخوا)) “هذا هو حالنا اليوم الحرب لم تنتهِ، نحن نعيش حرباً ثانية، حرباً نفسية لا تقل قسوة عن القصف، يريدون أن يحرمونا حتى من وداع أبنائنا”.

وتقول وهي تنظر إلى أحد الأكياس البيضاء بنظرة يائسة “قضيت عمري أربيه ليصبح شاباً يعتمد عليه، وها أنا اليوم أفتش عنه بين الجثث، لا يوجد ألم يساوي هذا الشعور”.

بحسب القانون الدولي الإنساني، يتوجب على السلطات الإسرائيلية تسجيل معلومات دقيقة عن مكان وزمان الوفاة، لتسهيل عملية التعرف على الضحايا وتسليمهم إلى عائلاتهم، وفقا لما أوضحه علاء إسكافي، مدير مؤسسة “الضمير” لحقوق الإنسان في غزة.

وقال إسكافي لـ ((شينخوا)) إن “المشاهد التي رأيناها تشير إلى أن ما تعرض له هؤلاء القتلى ليس تصرفات فردية، بل سياسة منهجية تمارسها مصلحة السجون والجيش الإسرائيلي بتوجيه من المستويين السياسي والعسكري”.

في ظل هذه الظروف الصعبة، تواصل الطواقم الطبية في مجمع ناصر عملها وسط إمكانيات محدودة، فيما يظل الأهالي بين الأمل والخوف، يبحثون بين الصور والأكياس البيضاء عن إجابات تنهي انتظاراً امتد لأشهر طويلة.

ورغم قسوة المشهد، فإن ما يجمع هؤلاء الأهالي هو إصرارهم على معرفة مصير أحبائهم، حتى لو كانت الحقيقة مؤلمة، فبالنسبة لهم، معرفة النهاية، مهما كانت قاسية، تبقى أهون من العيش على حافة الانتظار.

“شينخوا”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى