مقالات صحفية

“رسائل المصيلح الأربع” بقلم الكاتب السياسي جوني منيّر

سيسرق الرئيس الأميركي دونالد ترامب كل الأضواء حين سيعتلي منصة الكنيسة ليلقي كلمته ومن ثم سيترأس قمة شرم الشيخ والمخصصة لتثبيت خطته حول وقف الحرب في غزة. وهي الصورة الأحب على قلبه، صورة من “صنع” سلاما لملف شائك وصعب فشل في إيجاد حلول له جميع أسلافه. وهي صورة أراد إضفاء بعض البهرجة عليها، ربما كتعويض عن حجب جائزة نوبل للسلام عنه، وهو الذي جاهر لمرات عدة بأحقيته في نيلها. لكن ترامب بالغ كثيرا في حديثه عن نجاحه بإيقاف 7 حروب، وهو ربما يبالغ اليوم بعض الشيء في تعويله على تحقيق سلام شامل في الشرق الأوسط.
تنطلق اليوم المرحلة الأولى من خطة ترامب، مع إطلاق سراح الأسرى والمعتقلين، بعد أن جرى تثبيت وقف إطلاق النار، واستتباع ذلك بانسحاب الجيش الإسرائيلي الى المواقع المتفق عليها. لكن هذه المرحلة هي الوحيدة من بين ثلاثة مراحل، والتي جرى فيها الإتفاق على كامل تفاصيلها بين إسرائيل وحركة حماس. فبالنسبة للمرحلتين اللاحقتين هنالك تفاهمات مبدئية على عناوينها، وهي تنتظر الإتفاق على تفاصيل تنفيذها. فالمرحلة الثانية تشمل نشر قوة دولية مهمتها السهر على تحقيق الإستقرار، وتتولى مراقبة الوضع الأمني، ونزع سلاح حماس بالتوازي مع تقليص الوجود المباشر للجيش الإسرائيلي داخل قطاع غزة. أما المرحلة الثالثة والأخيرة فيتحقق معها الإنسحاب الكامل حتى الحدود المرسومة مسبقا، على أن تنقل مسؤوليات الحكم والإدارة الى هيئة دولية ولفترة إنتقالية.
وفي وقت أصبح فيه معروفا بأن الضغوط الهائلة التي مارسها ترامب على رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو هي التي أجبرت الأخير على السير بالإتفاق، فإن الشكوك تتصاعد حول نية ترامب ومعه حكومته اليمينية لاستغلال الجوانب الغامضة من مشروع ترامب، للشغب مجددا والسعي لنسف البنود بالتدرج كما حصل سابقا مع إتفاقات أوسلو. ومن الجوانب التي يكتنفها الغموض، تلك التي تتعلق بمواعيد الإنسحابات النهائية، ومساحة المنطقة العازلة داخل القطاع ومدتها، وموضوع تسليم أسلحة حماس (والتي تعني أيضا هدم الأنفاق وهو التحدي الأكبر)، والإدارة الحكومية لغزة.
ويعتقد نتنياهو أنه يمسك بورقة قوة تضعه في موقع متقدم دائما، وهي ورقة إعادة إعمار غزة. فمن المفترض أن تشهد قمة شرم الشيخ اليوم تحديد كيفية وتفاصيل تمويل مشروع إعادة الإعمار، والتي ستستفيد منها من دون أدنى شك الدورة الإقتصادية الإسرائيلية.
ما يعني أن خطة ترامب صحيح أنها خطة سلام ولكنها جزئية، وتهدف أكثر لوقف إطلاق النار، ولكن من دون معالجة القضايا الجوهرية للمشكلة. لا بل أكثر، فإن العديد من المراقبين يعتقدون بأن تحقيق وقف النار هو الجزء السهل من الخطة، إذ يبدو أن الطرفين وصلا الى نقطة الإرهاق من الحرب. أما المراحل التالية فلا تحمل إجابات تفصيلية واضحة، ما يشجع على الإعتقاد بأن اليمين الإسرائيلي والذي يريد ترحيل الفلسطينيين وليس سلاما حقيقيا، سيبحث لاحقا عن ثغرات وطرق تسمح له بإبقاء سيطرته العسكرية على غزة. أي أن ما يحصل الآن هو كسب للوقت، وبعدها التملص. وفي هذا الإطار يستذكر البعض إتفاقيتي أوسلو رغم وجود فوارق جوهرية عن ظروف اليوم. لكن ما حصل يومها، أن إتفاقية أوسلو الأولى جرى وضعها على مراحل، ما أدى الى إفسادها بسهولة. بينما جرى وضع التنفيذ في الإتفاقية الثانية ضمن مرحلة واحدة، وهو السبب في نجاح تطبيقها. كما أن هنالك واقعة ثانية غير مشجعة ولها علاقة بوقف إطلاق النار في غزة والذي حصل في آخر ولاية جو بايدن. وهو انهار بعد 42 يوما فقط. صحيح أن من يشرف على الإتفاق اليوم هو ترامب الشرس وليس بايدن المتردد، لكن مشاغل البيت الأبيض الدولية قد تجعل من الرقابة الأميركية على تنفيذ كامل الإتفاق أقل تشددا.
إذا هو ليس السلام النهائي لأزمات الشرق الأوسط كما يدعي ترامب، فالإتفاق لا يحل الجوهر الأساسي للمشكلة. فقد تتغير الأمزجة في المستقبل القريب، وينتقل إهتمام واشنطن الى عناوين أخرى، كما يحصل دائما عبر التاريخ. فالمعروف عن نتنياهو قدرته الفائقة على المناورة واللعب على التفاصيل والتملص من الإلتزامات. لذلك، فمن المتوقع ألا ترحب الحكومة الإسرائيلية بأي وجود أممي أو دولي داخل القطاع، لأن ذلك سيؤدي للحد من قدرة إسرائيل على حركتها الأمنية. لكن من الآن وحتى ذاك الوقت فإن نتنياهو بات مكشوفا أمام هجمات معارضيه وأخصامه في الداخل، وهم كثر. ولا شك أن نتنياهو الذي بدأ يسمع الإنتقادات العاصفة حول من عليه أن يتحمل مسؤولية نجاح عملية “طوفان الأقصى”، يجول في خاطره مصير غولدا مائير بعد هزيمة حرب العام 1973، وكذلك أرييل شارون بعد فشله في تحقيق أهداف حرب لبنان عام 1982. ولكن مع الإشارة الى أن خطورة “طوفان الأقصى” تبدو أكبر بكثير مما سبق. ما يعني بأن رئيس الحكومة الإسرائيلية يدرك جيدا بأنه أمام خيار من إثنين: إما الوقوف أمام قوس المحكمة واحتمال دخوله السجن وتدمير سمعته السياسية، أو الإندفاع الى الأمام أكثر وعلى أساس أن إسرائيل ما تزال في حال الحرب، قبل العودة والإستدارة الى غزة وعلى أمل إجهاض ما تبقى من الإتفاق.
والأرجح أن حال الهدنة ستكون الغالبة خلال الأيام القادمة. وإلا فإن أي تحرك حربي سيعتبره ترامب وكأنه موجه ضده، وهو الذي سيرعد صوته بأنه صانع سلام، وهو يحمل عاليا غصن الزيتون.
ورغم أن إيران تعتبر من أبرز الخاسرين في غزة، حيث أن الحل جعل تأثيرها يخرج من الساحة الفلسطينية لصالح دخول النفوذ التركي، وهو ما يجعل مشروعها الإقليمي، والمعروف بمحور المقاومة، من التاريخ. ذلك أن ساحة الارتكاز الأساسية لهذا المشروع هي فلسطين. إلا أنها حرصت على توجيه الرسائل الإيجابية والمتعاونة بعد مواقف أولية جاءت معترضة. وجاءت دعوة ترامب لها بالمشاركة في مؤتمر شرم الشيخ بمثابة تأكيد على إيجابيتها، وخضوعها للنتيجة التي حصلت. وجاء بعدها كلام وزير خارجيتها حول إبلاغ نتنياهو عبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن إسرائيل لن تقدم على الحرب ضد إيران. هو إذا إلتزام إسرائيلي بضمانة روسية ومباركة أميركية من دون أدنى شك. لكن نتنياهو نفسه أشار الى أن الحرب لم تنته، وأن هنالك جبهات أخرى. فمن قصد فعلا؟
ما إن اكتملت شروط نجاح مبادرة ترامب، حتى نفذت إسرائيل ضربة جوية نوعية في المصيلح في جنوب لبنان. وهذا الإعتداء الجوي شرع الأسئلة حول “اليوم التالي” بعد غزة وفق ما يخطط له نتنياهو. والعدوان الجوي جاء مفعما بالرسائل البليغة والتي أراد نتنياهو توجيهها الى لبنان. فالضربة الجوية جاءت من خلال المقاتلات الحربية وليس المسيرات. والمقصود هنا إطلاق صواريخ كبيرة ذات قدرة تدميرية كبيرة وليس صواريخ صغيرة قدرتها التدميرية تكون عادة محدودة. وهنا تأتي الرسالة الأولى بأن إسرائيل لن تكتفي بالنمط الحاصل حاليا، أي إغتيالات يومية عبر المسيرات، لا بل بأن اللغة التدميرية ما تزال واردة.
والرسالة الثانية تدعو الى عدم تفسير اتفاق وقف النار في غزة إيجابا على لبنان. أو بعبارة أخرى، لا تنخدعوا بمعاهدة غزة. فظروف غزة مختلفة عن ظروف الجبهة اللبنانية. وكدليل على ذلك، ها أن أيدينا طليقة في لبنان.
أما الرسالة الثالثة فهي أن إسرائيل ستعارض بالنار أي تفكير بإعادة إعمار الجنوب طالما أن المعطيات الميدانية ما تزال على حالها. والمقصود هنا طبعا سلاح حزب الله.
والرسالة الرابعة كانت للرئيس نبيه بري، وهي دعوة بالنار لإتمام بنود الاتفاق الذي جرى عبر الموفد الأميركي آموس هوكشتاين وأدى الى وقف الأعمال الحربية، والمتعلق بالجسم العسكري لحزب الله.
ولا حاجة للشرح بأن إدارة ترامب تتفق مع إسرائيل حول هذه العناوين الأربع. أضف الى ذلك أن ترامب والذي يدرك جيدا مدى حراجة “صديقه” نتنياهو جراء السير بمبادرته. سيترك له هامش الحركة في لبنان، خصوصا وأنها تلتقي مع المشروع الأميركي بإخراج إيران من لبنان.
قريبا سيصل السفير الأميركي الجديد ميشال عيسى الى مركز عمله في لبنان، بعد أن خضع لإحاطات كاملة حول الملف اللبناني. لكن ما لفت تلك الزيارات التي قام بها القائم بأعمال السفارة وهو الذي يعتبر الرقم إثنين في التراتبية، والتي شملت كبار المسؤولين اللبنانيين. واللافت أن هذه الزيارات حصلت قبل فترة قصيرة من وصول السفير الجديد أي رئيسه كما هو مفترض. وهو ما طرح علامات إستغراب. مع الإشارة الى أن القائم بالأعمال كيث هانيغان كان عمل سابقا كمساعد لنائب وزير الخارجية للشؤون الإدارية. أي أنه جاء من موقع جيد وليس من أسفل السلم. وهنالك من يعتقد أن السفارة التي بدأت تمتلىء بكوادر من المستوى الرفيع والمميز، وهو ما كان غائبا عن سفارة عوكر لفترة زمنية طويلة، سيكون لها نشاطا أكبر بكثير من السابق. فآخر سفير كان يحظى بهامش واسع وحركة سياسية ناشطة كان جيفري فيلتمان. أما آخر سفير كان له دور أمني وازن فكانت السفيرة إليزابيت ريتشارد والتي أتت من عالم الأمن، وهي الآن تلقي محاضرات في كلية الدفاع. أما السفراء الباقون فكانت حركتهم مقيدة والهامش المعطى لهم محدود.
ولكن ثمة انطباع بات يغلب على الدوائر الديبلوماسية المهتمة بالواقع اللبناني، وهو أن لبنان خسر أو يكاد المومينتوم الدولي الذي كان قائما لصالحه. فالزخم الدولي بات يتركز على غزة وسوريا، وهنالك المفاوضات السرية الدائرة بين واشنطن وطهران ولو عبر قنوات وسيطة. وهو ما يجعل لبنان ساحة إغراء لنتنياهو لإنقاذ نفسه من المقصلة السياسية الداخلية. فمثلا تبدي واشنطن موافقتها لا بل حماستها لمطلب إسرائيل بتحقيق منطقة عازلة عند الحدود، ولكلم واحد على الأقل. ولكن من يستطيع القبول بهذا الشرط في لبنان؟ ولذلك قد تتساهل واشنطن مع نتنياهو في تصعيده بوجه لبنان، رغم الوعود التي يطلقها بعض مسؤوليها للمسؤولين اللبنانيين.
لكن، ثمة إشارتين تحتاجان للكثير من التمعن والتفسير، الأولى سعودية وجاءت من خلال زيارة وزير الخارجية السوري الى لبنان. فهذه الزيارة حصلت بتشجيع سعودي، وهدفت للإشارة بأن التحرك السعودي باتجاه الملفات اللبنانية إنما حان وقته.
والإشارة الثانية، وهي وفق ما تسرب من لقاء أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني مع قيادة حزب الله، بأنه على حزب الله التمسك جيدا بتحالفهم مع الرئيس نبيه بري وعدم الخلاف معه بأي ظرف كان، والبدء بوضع آلية للعمل من ضمن هيكل الدولة اللبنانية ومؤسساتها، وليس عبر مؤسسات رديفة من خارجها كما كان حاصلا في السابق.
من المعروف عن لبنان تشابك الخيوط فيه، بحيث يصبح من شبه المستحيل فصل الخيط الأبيض عن الأسود. ولا شك أن التشابك الآن أصعب وأعقد، وسط التحولات الإقليمية الكبرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى